فصل: فصل في لطائف قوله الحمد لله، وفوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلنا: لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف، وهذا المقام مقام الشفاعة، وهما متباينان.
ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي الأعلى، وذلك لأن السجود أكثر تواضعًا من الركوع، لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة وهو الأعلى والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة، روي أن لله تعالى ملكًا تحت العرش اسمه حزقيل أوحى الله إليه: أيها الملك، طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني، فأوحى الله إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش، فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى.
فإن قيل: فما الحكمة في السجدتين؟ قلنا: فيه وجوه:
الأول: أن السجدة الأولى للأزل، والثانية للأبد، والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد، وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له، وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانيًا.
الثاني: قيل: اعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة، وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال الله.
الثالث: السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية بقاء الكل بإبقاء الله تعالى: {كُلُّ شيء هَالِك إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] الرابع: السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة الله، والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح لله تعالى، كما قال: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] والخامس: السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته، والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه.
واعلم أن الناس يفهموم من العظمة كبر الجثة، ويفهمون من العلو علو الجهة، ويفهمون من الكبر طول المدة، وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام، فهو عظيم لا بالجثة، عالٍ لا بالجهة، كبير لا بالمدة، وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد، فكيف يكون عظيمًا بالجثة وهو منزه عن الحجمية، وكيف يكون عاليًا بالجهة وهو منزه عن الجهة؟ وكيف يكون كبيرًا بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيرًا بالمدة؟ فهو تعالى عالٍ على المكان لا بالمكان، وسابق على الزمان لا بالزمان، فكبرياؤه كبرياء عظمة، وعظمته عظمة علو، وعلوه علو جلال، فهو أجل من أن يشابه المحسوسات، ويناسب المخيلات، وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون، وأعظم مما يصفه الواصفون، وأعلى مما يجده الممجدون، فإذا صور لك حسك مثالًا: فقل الله أكبر، وإذا عين خيالك صورة فقل: سبحانك الله وبحمدك، وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل فقل: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشًا وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال: {سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ وسلام على المرسلين والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الصافات: 180 182]. اهـ.

.فصل في لطائف قوله الحمد لله، وفوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة:

.قال الفخر:

لطائف الحمد لله:
أما لطائف قوله الحمد لله فأربع نكت:

.النكتة الأولى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته:

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال: يا رب، ما جزاء من حمدك فقال: الحمد لله؟ فقال تعالى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته»، قال أهل التحقيق: لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها الله فاتحة كلامه، ولما كانت خاتمته جعلها الله خاتمة كلام أهل الجنة فقال: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10].
روي عن علي عليه السلام، أنه قال: خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينه، والحكمة لسانه، والخير سمعه، والرأفة قلبه، والرحمة همه، والصبر بطنه، ثم قيل له تكلم، فقال: الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل، الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أعز عليّ منك وأيضًا نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال: الحمد لله، فكان أول كلامه ذلك، إذا عرفت هذا فنقول: أول مراتب المخلوقات هو العقل، وآخر مراتبها آدم، وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله: الحمد لله وأول كلام آدم هو قوله: الحمد، فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة، وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة، فلا جرم جعلها الله فاتحة كتابه فقال: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين}.
وأيضًا ثبت أن أول كلمات الله قوله: الحمد لله، وآخر أنبياء الله محمد رسول الله، وبين الأول والآخر مناسبة، فلا جرم جعل قوله: {الحمد للَّهِ}.
أول آية من كتاب محمد رسوله، ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان: أحمد ومحمد؛ وعند هذا قال عليه السلام: «أنا في السماء أحمد، وفي الأرض محمد» فأهل السماء في تحميد الله، ورسول الله أحمدهم والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى: {فأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] ورسول الله محمدهم.

.والنكتة الثانية: أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة:

أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام، فلهذا السبب قال: «سبقت رحمتي غضبي».

.النكتة الثالثة: تسمية الرسول بأحمد:

أن الرسول اسمه أحمد، ومعناه أنه أحمد الحامدين أي: أكثرهم حمدًا، فوجب أن تكون نعم الله عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة، وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة الله في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين، فلهذا السبب قال: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107].

.النكتة الرابعة: إفادة المبالغة في {الرحمن الرحيم} وفي محمد وأحمد:

أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة، وهما الرحمن الرحيم، وهما يفيدان المبالغة، والرسول له أيضًا اسمان مشتقان من الرحمة، وهما محمد وأحمد، لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة، فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم.
وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول: الحمد، والحامد، والمحمود، فهذه خمسة أسماء للرسول دالة على الرحمة؛ إذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى قال: {نَبّئ عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49] فقوله: نبئ إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور قبل العباد، والياء في قوله: عبادي ضمير عائد إلى الله تعالى والياء في قوله: أني عائد إليه، وقوله: أنا عائد إليه، وقول: الغفور الرحيم، صفتان لله فهي خمسة ألفاظ دالة على الله الكريم الرحيم، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول عليه الصلاة والسلام مع خمسة أسماء تدل على الرحمة، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تدل على الرحمة، ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} ورحمة الله غير متناهية كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَئ} [الأعراف: 156] فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة؟
وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء:
النكتة الأولى: اشتمال سورة الفاتحة على صفات الربوبية والعبودية:
أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء، منها خمسة من صفات الربوبية، وهي: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك؛ وخمسة أشياء من صفات العبد وهي: العبودية، والاستعانة، وطلب الهداية، وطلب الاستقامة، وطلب النعمة كما قال: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة، فكأنه قيل: إياك نعبد لأنك أنت الله، وإياك نستعين لأنك أنت الرب، {اهدنا الصراط المستقيم} لأنك أنت الرحمن، وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم، وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك {مالك يوم الدين}.
النكتة الثانية: تركيب الإنسان من خمسة أشياء:
الإنسان مركب من خمسة أشياء: بدنه، ونفسه الشيطانية، ونفسه الشهوانية، ونفسه الغضبية، وجوهره الملكي العقلي، فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم الله للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] وتجلى النفس الشيطانية بالبر والإحسان وهو اسم الرب فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان، وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} [الفرقان: 26] فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} [المائدة: 5] فلان وترك العصيان، وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله: {مالك يَوْمِ الدين} فإن البدن غليظ كثيف، فلابد من قهر شديد، وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة، فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران، وانفتحت أبواب الجنان.
ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وأطاعت النفوس الشهواينة فقالت: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على ترك اللذات والإعراض عن الشهوات، وأطاعت النفوس الغضبية فقالت: {اهدنا} وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا، وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من الله الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت: {اهدنا الصراط المستقيم} وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من الله أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين}.
النكتة الثالثة: شهادة أن لا إله إلا الله حاصلة من تجلي نور اسم الله:
قال عليه السلام: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» فشهادة أن لا إله إلا الله حاصلة من تجلي نور اسم الله، وإقام الصلاة من تجلي اسم الرب؛ لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة، وإيتاء الزكاة من تجلى اسم الرحمن، لأن الرحمن مبالغة في الرحمة، وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء، ووجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم؛ لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه، وأيضًا إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها، ووجوب الحج من تجلي اسم {مالك يوم الدين}؛ لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد، وذلك يشبه سفر يوم القيامة، وأيضًا الحاج يصير حافيًا حاسرًا عاريًا وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة، كثيرة جدًا.
النكتة الرابعة: أنواع القبلة:
أنواع القبلة خمسة: بيت المقدس، والكعبة، والبيت المعمور، والعرش وحضرة جلال الله: فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة.
النكتة الخامسة: الحواس خمس:
الحواس خمس: أدب البصر بقوله: {فاعتبروا يا أولى أُوْلِى الأبصار} [الحشر: 2] والسمع بقوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] والذوق بقوله: {يا أَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا} [المؤمنون: 51] والشم بقوله: {إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} [يوسف: 94] واللمس بقوله: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} [المعارج: 29، المؤمنون: 5] فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة.
النكتة السادسة: اشتمال الفاتحة على أسرار الألوهية والعبودية:
اعلم أن الشطر الأول: من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار، والشطر الثاني: منها مشتمل على الصفات الخمسة لعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار، وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته: فالأول: هو النزول، والثاني: هو الصعود، والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله: {مالك يَوْمِ الدين} وبين قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.